تجاوز المحتوى

وباء الأمل


  • فى بلد ما غير معروف *

تستيقظ أمل فى السادسة .. توقظ طفليها وتجهزهما للمدرسة ثم تنزل السوق تشترى الطلبات وتحضر طعام الغداء لأمها وأطفالها قبل ان تنزل المحل الذى تعمل به بوسط البلد فى العاشرة صباحا حتى العاشرة مساء كل يوم. انفصلت عن زوجها منذ سنوات ولا تعرف عنه شيئا ولا يشاركها فى أى مسئولية أدبية أو إنفاق على إبنائهما، ولم تحاول ان تتصل به أبدا بعد ان عادت لمنزل والدتها مهانة مضروبة تجر طفليها فى الليل.

لم تفكر يوما بالزواج مرة أخرى نتيجة لتلك التجربة وخافت ان تتزوج رجلا دنيئا أخرا يجبرها على ترك أطفالها فتحملت الحياة وحيدة. ومع ذلك فمن آن لآخر بعد ان ترجع من عملها وتلقى بنفسها على السرير الصغير الذى تتشارك فيه مع ابنتها تشعر برغبة شديدة فى ان تكون مع رجل ليس بالضرورة غنى أو وسيم ولكن حنون. يروى ظمآها لبعض العاطفة ويقوى قلبها أمام مخاوفها الكثيرة ويصلب عودها فى مواجهة خطر الحياة. فمن فى مثل حالها كل يوم حياة خطر .. خطر الفقر .. خطر المرض .. خطر الظلم .. الحياة مليئة بالأخطار.

عندما بدأ الوباء اُغلق المحل لفترة ثم أرسل صاحبه رسالة نصية لكل البائعات فيه انه لن يفتح قريبا ولن يستطيع ان يصرف لهم رواتبهم كاملة وكل ما يستطيع توفيره حاليا هو ربع الراتب فقط ومن لا ترغب فى ذلك عليها البحث عن مكان اخر للعمل. قبلن مضطرات واستمر الوضع لثلاثة شهور اولا ثم تم فُتح المحل لجزء من اليوم فأعطاهم ثلاثة أرباع مرتبهن لأنهن لا يعملن نفس عدد الساعات كما سبق.

أثناء تلك الشهور العجاف، اضطرت أمل ان تقترض من كل من تعرفه لتوفر الإحتياجات الأساسية من طعام لأسرتها مع وعود بالسداد حين تعود للعمل. لم يسلم الأمر من عدد من العروض القميئة لمسح تلك الديون فى مقابل قليل من “التفاهمات” من جانبها. لم تخضع لذلك الإبتزاز وزادها ذلك خوفا من الحياة ومن الجميع.

عم حسن جار أمل القاطن فى الدور الأرضى هو الوحيد الذى لم تكن تخافه بل على العكس تذهب إليه كلما إحتاجت لتهدئة نفسها وسط أمواج الوباء الهادرة التى قذفت بها خارج عملها. عجوز أرمل بلا أطفال ودائما يستقبلها بإبتسامة وترحيب، تساعده فى المنزل قليلا دون ان يطلب وتشترى له أحيانا بعض الطلبات من السوق. أسعد أوقاتها عندما تجلس لتتسامر معه فى صالة منزله وهو يتحدث عن أى شىء وكل شىء دون ان يعقد الأمور أو يفلسفها. ينجح دائما فى ان يمنحها تلك النفحة من السلام النفسى وهو يطمئنها ان “كله حيعدى ويا ما دقت على الراس طبول وادينا اهه عايشين والحمدلله”.

كانت تشكو إليه ما يحدث وأحيانا كان يتدخل ليوقف أحد الجيران عند حده وأحيانا أخرى يقرضها القليل من المال فمعاشه بالكاد يسمح له بالعيش دون رفاهيات، ولكن فى أغلب الأحيان كان يقدم لها الونس فقط وهذا ما كانت تحتاجه بالأكثر.

توالت موجات الوباء وبالرغم من عودة مواعيد العمل كماسبق إلا إن الحياة تغيرت تماما عما كانت قبلا ولم يعد البيع والشراء كما كمان. تأثر الجميع. كثر الموت وزاد الفقر وتعلق الجميع بأمل وحيد هو الدواء المنتظر الذى سينقذ العالم من الوباء لتعود الحياة كما كانت.

ثم ظهرت الأدوية التى كان ينتظرها الجميع على أحر من الجمر ومعها ظهر أقبح وجه للإنسانية. نظرا للسرعة التى فُرضت على عملية الإبتكار، لم تكن الأدوية الأولية مجدية بطبيعة الحال ومع ذلك بيعت على نطاق واسع بثمن بخس للجميع وحققت مليارات الأرباح لصانعيها،  وبعد شهور ظهرت أدوية أكثر فعالية وكفاءة ولذا كانت أغلى وأكثر ندرة. وعاد الجميع لمربع الصفر فمن يمتلك سعر الدواء هو من يمتلك ان يبقى فى المنزل معزولا يعمل دون ان يخالط الجميع أما الفقير الذى لا يمتلك تكلفة الدواء المرتفعة هو من يضطر للنزول يوميا ليعمل ويموت. فالموت من الفقر أو المرض كلاهما موت.

مع قلة العمل على مدى سنتين وتعدد الفتح والإغلاق تحول الطعام إلى سلعة نادرة .. ثمرة الطماطم أغلى من الملابس وكيلو البرتقال بثمن مرتب شهر عمل. لم تعد للأموال قيمة فرجع الناس لنظام المقايضة .. خاتم ذهبى مقابل فرخة واسورة مقابل كيلم لحم.

وبمرور الأسابيع والشهور إنتشرت مهن قديمة وإندثرت مهن أخرى، فالمقايضة لم تتوقف على الأشياء وتحولت للأجساد ايضاً. وجبة مقابل عمل يوم فى المحل أو سهرة مع صاحب المحل .. كيس دم مقابل بضعة دولارات بعد ان تحول الجميع عن العملات المحلية. كل الأعمال الإدارية توقفت ولم ينجو إلا المحاسبون الذين كان عليهم اللهاث لملاحقة التغييرات فى تقييم كل البضائع. سُجن الأطباء فى أماكن عملهم لا يستطيعوا ان يخرجوا ليواجهوا غضب الدهماء من الوباء. خرجت أماكن ومدن كثيرة عن السيطرة وأصبح كل إنسان مسئول عن سلامته الشخصية.

وقفت أمل أمام الثلاجة تنظر لأدراجها الخاوية وتفكر ما العمل؟ جمعت كل ما معها من المال ونزلت السوق لتشترى أى شىء حتى لو حفنة من بعض الثمرات المعطوبة فحتى المعطوب يُباع ولا يلقى كما كان فى السابق.

تمشت أمل فى السوق كفريسة وسط الغابة تخشى ان تُسرق وتخاف من ان يضيع ما معها بلا جدوى. الجميع يتزاحم ويخطف ولا يرحم أحد أحدأ. ظهرت مهنة جديدة فى السوق .. حراس الفرش. رجال أقوياء يقفون حول فرشة الخضار أو الفاكهة ليمنعوا أى شخص من الإقتراب وعلى الشارى ان يتعامل مع صاحب المحل فقط وهو من يضع له بضاعته فى الكيس. توقف العمل بالميزان وتوقف تقييم قيمة السلع بالمال على مزاج البائع فقط. كل ما مع أمل لم يكفى لشراء ثمرة طماطم معطوبة.

رجعت للمنزل ومرت على عم حسن وبكت فكيف ستستطيع ان توفر الطعام لأربعة أفراد ان لم يكن معها ما يكفى لشراء ثمرة طماطم واحدة. وان فكرت حتى فى قبول تلك “التفاهمات” فلن تكفى ولن تدوم .. قيمتها كإنسانة أقل من قيمة وجبة واحدة. فتح لها عم حسن الثلاجة وطلب منها ان تأخذ ما تريد ولم تتردد .. بدأت فى جمع كل شىء بجنون ثم توقفت لحظة وسألته: وأنت؟ فرد: ماتشغليش بالك .. أنا حاتصرف.

ثم أعطاها مفتاح شقته الإحتياطى وأخبرها انه يخبىء بعض الأموال مع ذهب زوجته خلف دولاب غرفة نومه وقال: لو حصل لى حاجة خديهم يا أمل من غير ما تقولى لحد.

صعدت أمل لشقتها وأعدت شوربة خضار مما أعطاها عم حسن وأكلوا. ولاحظت ان أمها تتأنى فى الأكل حتى تترك الطعام لهم. نظرت لأمها وعينيها مدمعتين تشكرها دون كلام وفعلت مثلها. وفى المساء شم الجميع رائحة غاز قوية وبتتبع الرائحة وجدوا مصدرها شقة عم حسن. كسروا الباب ووجدوه قد مات.

فى  اليوم التالى أتى أقاربه ودفنوه ثم رجعوا الشقة وقلبوها بحثا عن طعام وتصارعوا على بعض كسور الخبز التى كانت على المائدة ومضوا وهم حاملين كل ما يمكنهم حمله. نزلت ليلا أمل للشقة تتسحب كما اللصوص وفى الظلام تحركت حتى غرفة النوم ومدت يدها خلف الدولاب وأخذت الخبيئة. فتحتها ووجدت ذهبا يكفى لأسبوع فبكت بشدة وضمت إليها الخبيئة ورفعت عينيها للسماء وخاطبته فى سرها شكرته وطلبت منه ان يسامحها.

سمعت وسط دموعها صوت فى سيارة بميكرفون تعلن عن توفر لقاح للجميع وعلى كل المواطنين التوجه للمستشفيات الحكومية فى الغد لتلقى التطعيم. لقد انتهى الوباء.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظة كافة المواد المنشورة في هذا الموقع محفوظة ومحمية بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. لا يجوز نسخ هذه المواد أو إعادة إنتاجها أو نشرها أو تعديلها أو اقتباسها لخلق عمل جديد أو إرسالها أو ترجمتها أو إذاعتها أو إتاحتها للجمهور بأي شكل دون الحصول على إذن كتابي مسبق
CopyRight © Rania Joseph 2008 - 2020
Designed by WebUnicorn.com